شخصيات أخطأت وتابت
* ولكنه قدم لنا في هؤلاء القديسين الذين أخطأوا، صوراً رائعة من التوبة. نصف الحقيقة أنهم أخطأوا، والنصف الآخر، الأروع، أنهم تابوا..
إن الكتاب المقدس صريح وواقعى . إنه يقدم لنا قديسين من نفس طبيعتنا، التي يمكن أن تخاف، وأن تشتهى، وأن تقتر، وأن تهرب، وتختبئ من الله.. حتى السبعة ملائكة الذين للسبع كنائس في آسيا، نراهم من نفس الطبيعة البشرية العادية:
لذلك حينما ندرس هؤلاء الرعاة، الذين وصفهم الكتاب بأنهم ملائكة، لا ننسى أن واحداً منهم كان فاتراً، لا هو حار، ولا هو بارد، وكان الله مزمعاً أن يتقيأه (رؤ 3: 16). ونرى واحداً آخر منهم، على الرغم من تعبه وكده لأجل الله، عاد وترك محبته الأولى، وأرسل له الله قائلاً " أذكر من أين سقطت وتب" (رؤ 2: 5). ونرى ملاكاً ثالثا من ملائكة هذه الكنائس السبع، يقول له الرب " إن لك إسماً إنك حى وأنت ميت" (رؤ 3: 1)
ولكن بعمل الله القوى الذي عمل فيهم، بنعمته التي دخلت إلى قلوبهم، بروحه القدوس الذي أرشدهم وقواهم وأشترك في العمل معهم.. بهذا قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه.. وتغيروا.
بطرس الذي خاف ذات مرة أمام جارية وأنكر المسيح، وتحول إلى القديس بطرس الجبار العنيف، الذي وقف أمام ولاة وملوك، وقال للشيوخ ولرؤساء الكهنة "ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس "
(أع 5: 21).. جاهر بالإيمان، وتعب لأجله، وصار شعلة من نار، وصلب، ومات شهيداً.
ما هذا يا أبى القديس بطرس؟ يجيب: لقد كنت ضعيفاً مثلك، وخائفاً مثلك. لكن الله عمل في ضعفى، وروحه قوانى وشددنى، فشهدت له أمام الكل..
إذن، حينما نجد القديس بطرس الرسول قد ملأ الدنيا تبشيراً، لا نقول إنه من طبيعة أخرى سامية غير طبيعتنا.. كلا، إنه مثلنا. ولكنه فتح قلبه لعمل الله، وسلم مشيئته لمشيئة القدوس
وإن رأينا إنساناً مثل القديس بولس الرسول، قد تعب أكثر من جميع الرسل، وكرز في كل أرجاء الأرض، فلا نظن أنه قد ولد هكذا.. وإنما هو نفسه يعترف ويقول: "أنا الذي كنت من قبل مجدفاً وضطهداً للكنيسة، ولكننى رحمت لأننى فعلت ذلك بجهل" (1تى 1: 13)..
وإن عرفنا جباراً من جبابرة الروح والرعاية مثل القديس موسى النبى، الذي أجرى الله على يديه معجزات فى أرض مصر، وشق البحر بعصاه، وضرب الصخرة ففجر منها الماء، أنزل من السماء المن والسلوى.. فلا نظن أنه وقد ولد هكذا.. بل أنه عاش في مبدأ حياته كأمير فى قصر فرعون، بكل الله ما تحمل الإمارة من رفاهية وتنعم وكبرياء، متعداً بنفسه، يضرب المصرى فيقتله. ولكن الله أمسك به، علمه طريقه. أمسكه "إبن النجار"، بالفارة والمنشار، وأزال نتوءاته وصنفره، وعمل فيه، حتى صار قديساً عظيما ً لا نستحق التراب الذي يدوسه بقدميه.. "وصار الرجل موسى حليماً جداً، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 3)
هذه عينات من الناس، أخذها الله كما هى، وعمل فيها، وعمل معها، صارت له، وأخذت من بهائه، ومن قوته.
وبالنسبة إليك، لا تشابه القديسين في ضعفاتهم، وإنما في طهرهم.
لا تتهاون معتذراً بأن القديسين أنفسهم قد أخطأوا، إنما أنظر إلى توبتهم وأعماقها العجيبة، وإلتصاقهم الطبيعى بالله.
* وحينما نقول إنهم أخطأوا، فلا نعنى أن حياتهم كلها كانت خطية. بل السقطات كانت الوضع العابر الطارئ في حياتهم. أما القداسة فكانت الوضع الطبيعى الدائم.
إذا عرفنا أن داود في وقت ما، قد زنى وقتل. فليس معنى هذا أن حياته كلها كانت زنى وقتلا وليس معنى هذا أن يتطاول بعض الوعاظ على هذا القديس العظيم، ولا يتحدثون إلا عن خطيئته بلون من الإستصغار!! وينسون أنه رجل الصلاة والتسبيح والمزامير، رجل المزمار والقيثار والعشرة الأوتار، رجل الإيمان والوداعة، الذي قال عنه الرب بنفسه " فحصت قلب داود، فوجدته حسب قلبى.
إن الشر لم يكن طبيعة في هذا البار، الذي حل عليه روح الرب، والذى هزم جليات، وإحتمل شاول وغفر لشمعى بن جيرا، وسبح للرب تسابيح جديدة.. إنما هى صفات طارئه، سمح بها الرب ليعطى قديسه إنسحاقاً ودموعاً، ويصيره درساً في التوبة، كما كان درساً في الصلاة، وفى الوداعة، وفى الشجاعة.
وبنفس الوضع حينما نذكر خوف أبينا إبراهيم، وقوله عن إمراته سارة إنها أخته.. لا ننسى أبداً إيمان الرجل، ونسكه وشجاعته، وكرمه، وطاعته للرب حتى رفع السكين ليقدم وحيده المحبوب محرقة.. ولا ننسى وتركه لأهله وعشيرته وسعيه وراء الرب.
* كذلك في حديثنا عن قديسى الكتاب، ليس المهم نقطة البدء في حياتهم، فربما بدأ البعض منهم كأشخاص عاديين . إنما المهم هو ما إنتهوا إليه..
لقد كانت حياة هؤلاء القديسين، مجرد مجال عمل فيه الله. نحن نهتم بهذه النقطة بالذات في حياة قديسى الكتاب.. يهمنا جداً دور الله في حياتهم. كيف كانت معاملة الله لقديسيه، وكيف كانت معاملته للأشرار؟ ومعاملته للساقطين والتائبين وللقائمين..
إن الكتاب هو سجل جميل لمعاملة الله مع الناس..
ومن واقع هذه المعاملة نأخذ فكره عن صفات الله الجميلة، وعن حبه وطول أناته، وحكمته وصلاحه، وقوته وقدرته.. ونأخذ من كل هذا درساً لأنفسنا ومجالاً لتأملاتنا.
* وفى سير قديسى الكتاب، لا نريد أن ندرس تاريخاً، إنما أن نمتص حياة..
فالكتاب المقدس لم يقصده به أن يكون كتاب تاريخ، إنما هو كتاب إيمان، وكتاب حياة. وهذا هو الفرق بين دراستنا للكتاب، ودراستنا لكتب التاريخ. التاريخ يذكر أحداثاُ، ولكننا هنا
لا نفحص الأحداث، بقدر ما نفحص حالة القلب.
إننا من خلال الأحداث، ندرس النفس البشرية، في كل مشاعرها وأحاسيسها وتصرفاتها. ندخل إلى أعماق النفس، وندرس حروبها الروحية، وندرس علاقاتها مع الله ومع الناس ومع ذاتها. ومن كل ذلك نتعلم..
والكتاب المقدس صريح جداً في كشف النفس البشرية. ونحن نريد أن نتناول هذه النفوس، لكى نحللها، ونفهمها، ونرى فيها صورتنا نحن، وما ينبغى أن نفعل. وفيما ندرس هذه الشخصيات، ندرسها لكى نحيا نحن..
نحيا من خلال حياة هؤلاء، ونستفيد من تجاربهم، ومن خبراتهم، ونستفيد من سقوطهم أيضاً ومن قيامهم. وإن تعرضنا لأخطائهم، فنحن لا ندينهم عليها. إنهم آباؤنا ومعلمونا، بل هم أيضاً مثلنا العليا. وهم أحباء الله الذين نرجو شفاعتهم وبركتهم..
والأخطاء التي نكشفها، إنما تكشف لنا ضعف طبيعتنا، وليس ضعفاً لأولئك القديسين الذين لا نستحق أن نقبل التراب الذي داسوه بأقدامهم الطاهرة..
بركتهم فلتكن معنا، آمين..
لقداسة البابا شنودة