. كلمة "أب" في الحضارة المسيحية القديمة
في العهد القديم كان إيمان شعب
الله يقوم على إيمان "الآباء"، وكان الله يُدعى "إلهُ الآباء" (خر3 / 15).
في الديانة اليهودية كان الاعتراف بقيمة الآباء مهماً وقد امتدح الشعب هذه
الشخصيات الأساسية في تاريخ الخلاص واعتبرها مثالاً يحتذى في الإيمان (راجع
سي 44 ـ 50).
إلى جانب هذا كانت كلمة أب تُطلَق
على المعلِّمين، كالأنبياء مثلاً الذين كانوا بمثابةِ آباء لتلاميذهم،
فنجد تعبير "أبناء الأنبياء" (1مل 20 / 35). نجد ذات الشيء في الأدب
الحكمي، حيث توصف العلاقة معلم - تلميذ كعلاقة أب - ابن (مثل 1 / 8؛ 3 /
1).
أيضاً في العهد الجديد نجد
استعمال مماثل لكلمة "أب" (لو 1 / 55. 72؛ عب 1 / 1). ومع أن يسوع يفضِّل
استعمال هذه التسمية فقط بالنسبة للآب السماوي (مت 23 / 9)، نجد أن بولس
الرسول يستعملها للحديث عن علاقة الإيمان، حيث يدعو إبراهيم أبا المؤمنين
(رو4 / 16)، ويرى أن التبشير بالإنجيل يولد علاقة أبوية بين المبشِّر
والكنيسة (غل 4 / 9؛ 1كو 4 / 14 ـ 15؛ فيل 10). لذا علينا ألا نفسِّر وصية
يسوع بشكل حرفي بل بشكل روحي، إذ أنه في الحقيقة لنا أب واحد هو الله. ومما
يؤكد هذا الاتجاه استعمال العهد الجديد ذاته لكلمة آباء للدلالة على الجيل
الأول من المسيحيين (2بط 3 / 4).
استمر الآباء الرسوليون في
استعمال هذه الكلمة للدلالة على بطاركة العهد القديم. لكن استعمال كلمة أب
للدلالة على الأسقف نجد منذ العضور الأولى للمسيحية. الشهادة الأولى نجدها
بشأن بوليكاربوس أسقف ازمير، فقد دعاهُ الوثنيون "معلم آسيا وأب
المسيحيين". وفي عام 177 م يتوجّه مسيحيّو فيينّا وليون في غالية إلى أسقف
روما الِوْثيرُس داعينه "أباً". هذه التسمية التي أُطلِقَت على أساقفة
الكراسي الرئيسية، تحولت منذ القرن السابع الميلادي إلى تسمية تخص أسقف
روما.
2. استعمال كلمة "أب" بالمعنى العقائدي
عندما اشتدت حدة الخلافات العقائدية في القرنين الرابع
والخامس الميلادي، أصبحت تسمية أب تُطلَق على الأساقفة مستقيمي الإيمان.
حدث ذلك خصوصاً في مجمع نيقيا (325 م)، حيث دعيَ أساقفة المجمع آباءً، ومن
ثمَّ أصبحت هذه التسمية تُميِّز الأساقفة المستقيمي الإيمان عن الهراطقة.
يتكلَّم القديس أغسطينوس عن المبادئ التي تسمح لنا بأن
نميِّز السلطان التعليمي لأحد الآباء: المبدأ الأساسي هو تطابق تعليمه مع
الكتاب المقدس بحسب تأويل الكنيسة. الكتاب المقدس - يقول أغسطينوس - هو
كنزٌ مفتاحهُ قاعدة إيمان الكنيسة. فالآباء يعلّمون الكنيسة ما تعلّموا في
الكنيسة.
توضَّحت هذه الأفكار عبر الزمن حتى ظهرت في القرن الخامس أربع ميِّزات لآباء الكنيسة: يُدعى أباً للكنيسة من كان:
- إيمانهُ مستقيماً؛
- سالكاً بقداسة الحياة؛
- حائزاً على مصادقة الكنيسة؛
- منتمياً إلى جيل القدماء.
3. مكانة الآباء في الكنيسة
في تقليد الكنيسة الحي
والمقدس، المُستمر منذ تأسيس الكنيسة حتى أيامنا هذه، يحتل آباء الكنيسة
مكانة خاصة، تجعلهم يتميَّزون عن أي شخصية أخرى في تاريخ الكنيسة. فالآباء
هم أول من وضع الخطوط العريضة لبنية الكنيسة، التنظيمية، العقائدية
والرعوية، وما قدَّموه يحتفظ بقيمتهِ بشكل دائم.
من الآباء حصلنا على قانون
الكتاب المقدس، قوانين الإيمان، قوانين الحياة الكنسيّة، الليتورجيا، أوائل
الخلاصات اللاهوتية والتعليمية، أضف إلى ذلك التأملات في الحياة الروحية،
الزهدية والصوفية. لهذا فإن سلطان تعليمهم في الأمور اللاهوتية يبقى فريداً
في تاريخ الكنيسة.
على أننا يجب أن نبقى يقظين
لئلا نجعل من "لاهوت الآباء" عبارة جامدة، يمكنها أن تختصر كل الخبرات
والآراء المتنوّعة في مسيرة واحدة، فالبحث اللاهوتي كان لا يزال في
بداياتهِ، كما أن المواقف الرسمية للكنيسة من بعض الأمور العقائدية قد نضجت
مع الزمن، لهذا ففي دراسة الآباء علينا أن نحذر تبسيط الأمور، وألا يكون
استشهادنا بأقوالهم عفوياً خالياً من الموضوعية والدراسة النقدية للمحيط
الزمني والمكاني الذي عاشوا فيهِ.
4. آباء الكنيسة وحضارة زمنهم
الكنيسة ومنذ بدايتها تعلَّمت أن تعلن رسالة المسيح
بإستعمالها لغة العصر الذي وُجِدَت فيهِ. وقد اجتهدت أن تترجم بلغة الفلسفة
والحكمة، الحقيقة الإلهية الموحاة في شخص يسوع المسيح، كيما تكون قريبة من
لغة العقل والمنطق، واثقة بأن المنطق لا يخالف الإيمان، حتى لو أن هذا
الأخير يتجاوز حدود المنطق.
إن آباء الكنيسة وبسبب وعيهم لقيمة الوحي الإلهي الشمولية،
قد شرعوا بما ندعوه اليوم بالإنثقاف، أي ترجمة الإيمان بلغة العصر. هذا
التعبير قبل أن يكون "برنامج عمل" هو حقيقة المسيحية ذاتها، التي نشأت
بتجسُّد كلمة الله، فكان عليها هي أيضاً أن "تتجسَّد" في حضارات الشعوب كي
تجعل الله حاضراً فيها، عن طريق بشارة الخلاص. كانت هذه قناعة المسيحيين
منذ البداية: "... صِرتُ لِليَهودِ كاليَهودِيّ لأَربَحَ اليَهود،
ولِلَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّريعةِ كالَّذي في حُكْمِ الشَّريعة [...]
لأَربَحَ الَّذينَ في حُكْمِ الشَّريعة، وصِرتُ لِلَّذينَ لَيسَ لَهم
شَريعة كالَّذي لَيسَ لَه شَريعة [...] لأَربَحَ الَّذينَ لَيسَ لَهم
شَريعة [...]، وصِرتُ لِلضُّعَفاءَ ضَعيفًا لأَربَحَ الضُّعَفاء، وصِرتُ
لِلنَّاسِ كُلِّهِم كُلَّ شَيء لأَُخَلِّصَ بَعضَهُم مَهْما يَكُنِ
الأَمْر. وأَفعَلُ هذا كُلَّه في سَبيلِ البِشارة." (1كو 9 / 19 ـ 23).
ومع أن هذا الأمر رافق كل تاريخ الكنيسة (بدرجات متفاوتة)،
إلا أنه يُعتَبَر مرتبطاً بشكل خاص بالآباء، الذين عاشوا في ظل الحضارة
الهلّينية، فأيقنوا وجوب ترجمة البشارة بحسب الأشكال الفكرية السائدة في
ذاك الوقت. البعض سمّى هذه الظاهرة "تهلُّن المسيحية"، إلا أن الحقيقة كانت
"تمسحُن الهلّينية"، حيث نجح الآباء في اختراق وتعميد العالم الوثني
وفلسفتهِ، بالرغم من كل المحاولات التي أرادت أن تحوِّل المسيحية إلى شكل
من أشكال الفلسفة اليونانية، والتي ظهرت عن طريق هرطقات، لم ينجح أصحابها
في تبنّي أشكال فكرية جديدة مطابقة للوحي المسيحي بكل ما فيهِ من تجديد.
لقد برع الآباء في تمييز ماهو صالح وخادم لرسالة الإنجيل في العالم الوثني
فاعتمدوه واستخدموه (على سبيل المثال فكرة الله الواحد في الفلسفة
الأفلاطونية)، عمّا هو طالح ومتناقض مع الوحي، فشجبوه. بهذا كان الآباء
ومازالوا مثالاً ومنارة للكنيسة، في اللقاء المثمر بين الوحي الإلهي
والحضارة، بين الإيمان والمنطق.